يُعتبر «أطياف» مبادرة اجتهادية لتسليط الضوء على الأسئلة والقضايا الصعبة والمتشابكة التي تهم الذات العربية والإرادة العربية إبان الحقبتين الحديثة والمعاصرة. فما معنى أن يكون المرء عربياً اليوم، وما هي المعاني التي أحاطت بالعروبة منذ أن اعتنقت المجتمعات العربية، وإن بطريقة ترقيعية وغير متجانسة، عدداً من أسُس الحداثة التي عممتها ظاهرة العولمة، بما فيها نظريات الفردانية والعقلانية، ونموذج الدولة الوطنية، والرأسمالية، والديمقراطية، والنزعة الاستهلاكية؟ وهل كان العرب في الماضي – وهل هم اليوم – أهم مساهم في تحديد الهوية العربية؟ وما هي الوظائف الاجتماعية والثقافية التي تضطلع بها الهوية، في بعدها العرقي-الوطني، داخل المجتمعات العربية اليوم؟
ولعل أبرز محاولة لفرض هوية عربية جماعية في صيغة حداثية قد تجلت في فكرة "الأمة العربية" (أو "الوطن العربي")، تلك الفكرة التي لاقت شعبية كبيرة خلال فترة النزوع إلى الوحدة العربية، غير أن عدداً كبيراً من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ألمَّت بالشعوب العربية قد كشفت محدودية مفهوم "الأمة العربية"، حيث صار يبدو بشكل واضح، بل وحتى بشكل يثير بعض الاستخفاف، على أن هذا المفهوم غير ملائم كإطار جيو-ثقافي مرجعي للتحليل والاستدلال.
"لعل مفهوم 'الأمة العربية' يكون منطقياً أكثر إن نظرنا إليه كأفق انتظار جماعي مفعم بشتى التوقعات والآمال، بدلاً من أن نتصوره كحالة جيو-ثقافية كاملة متكاملة."
وفي ظل الاضطرابات التي تهز المنطقة باستمرار والتي أضحت تُفاقم التصدعات الكامنة فيها سواء على صعيد المعتقد أو الطائفة أو القبيلة أو الوطن أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، لعل مفهوم "الأمة العربية" يكون منطقياً أكثر إن نظرنا إليه كأفق انتظار جماعي مفعم بشتى التوقعات والآمال، بدلاً من أن نتصوره كحالة جيو-ثقافية كاملة متكاملة. فهذه الآمال والتوقعات كفيلة ببثِّ شعور بالطمأنينة عند بعض العرب نظراً للإمكانيات التي تحملها في طياتها، ومنها إمكانية التوصل إلى هوية موحدة مترسخة في اللغة والتاريخ تضم الملايين من الناس تحت جناحها، إضافةً إلى إمكانية بناء أرضية تضامنية في المستقبل من شأنها إنعاش آمالهم المحطمة وتحويلها إلى نسخة حديثة من الأمجاد الملحمية التي شهدها "العصر الذهبي للإسلام" خلال قرون خلت.
"إننا نستحضر هنا مفهوم 'الأمة العربية' من أجل لفت الانتباه إلى التناقضات التاريخية الكامنة في المعجم الأيديولوجي الذي يعتمده العديد من العرب كمرجع لهويتهم الجماعية."
على أي حال، يبقى أن "الأمة العربية" مفهوم تجاوزه التاريخ كما يدل على ذلك فشل جمال عبد الناصر في محاولته نشر المد العروبي، وهو فشل تعود جذوره إلى ما قبل الهزيمة المُدوية التي ألحقتها إسرائيل بالجيوش العربية المتحالفة عام 1967.
إننا نستحضر هنا مفهوم "الأمة العربية" من أجل لفت الانتباه إلى التناقضات التاريخية الكامنة في المعجم الأيديولوجي الذي يعتمده العديد من العرب كمرجع لهويتهم الجماعية. ومن بين أبرز المصطلحات التي يتضمنها هذا المعجم نجد مسميات جغرافية مثل "العالم العربي"، و"العالم الإسلامي"، و"الشرق الأوسط"، إضافةً إلى مسميات روائية مثل "الصراع في الشرق الأوسط"، و"الحرب على الإرهاب"، و"صِدام الحضارات"، ومؤخراً "الإرهاب الإسلامي الراديكالي".
وإذا نظرنا إلى هذه المصطلحات وغيرها من منظور تاريخي موسع، سنجد أنها تعود في الأصل إلى تلك الفترة التي عرفت احتكاكات معرفية غير متكافئة بين "المشرق" العربي والغرب الأورو-أمريكي منذ غزو نابليون لمصر في 1798.
فمن جهة، نجد أولئك القادمين من أوروبا وأمريكا الشمالية ومعهم أجندات محددة وتقنيات متطورة الهدف منها بسط النفوذ بالإكراه، يروجون خطابات تقترن فيها مفاهيم "التقدم" و"التحضر" بمفهوم "الحداثة"، وبالتحديد الحداثة التي يكون تمثُّلُها الطبيعي والحتمي هو الدولة الوطنية الرأسمالية.
وفي الجهة المقابلة، نجد "العرب"، وهم مجموعة متعددة الأعراق والمذاهب تتناثر عبر مساحة جغرافية شاسعة، إلا أنها مترابطة بلغة معيارية واحدة وبتقاليد ثقافية متعددة ومسارات تاريخية متداخلة في الهجرة والاستيطان.
وقد واجه العديد من العرب – ولا يزالون – تحديات كبيرة في ترسيخ هوياتهم الحديثة داخل سياق مُعَرَّب، وذلك بسبب خضوعهم لقوى خارجية خولت لنفسها حق تعريف مرتكزات الذات العربية الحديثة وحصرها وتصنيفها ومأسستها، بما يتماشى مع الإملاءات الاستعمارية الإمبريالية.
"بسبب لجوئهم إلى هذه التصنيفات الجاهزة أثناء بحثهم عن هويتهم، ينزلق العرب نحو تبني روايات تاريخية يلعبون فيها إما دور الخصم اللدود أو دور الشخصية الثانوية – وليس دور البطل إطلاقاً."
نتيجة لذلك، فقد صدَّق هؤلاء العرب أنهم فعلاً جزء من ذاك "الشرق الأوسط"، أي تلك المنطقة التي تتشابك فيها المصالح الاستراتيجية والمعروفة بصراعاتها التي تكون دائماً من فعل الآخرين الذين يتولون كذلك (سوء) تدبيرها و/أو (عدم) إيجاد الحلول لها؛ أي تلك المنطقة الواقعة ضمن ذاك "العالم العربي" المترامي الأطراف والمنحصر على حاله في ذات الآن، حيث يسود الفقر المدقع والجهل المطبق والفساد المستشري والتضخم الحكومي والبيروقراطية الملتوية والاستبداد الحقيقي كمؤشرات يفترض أنها دلالات واضحة على فشل ذريع في الانتقال إلى الحداثة الرأسمالية؛ إنها المنطقة نفسها التي توجد ضمن ذاك "العالم الإسلامي" الذي ما انفك يرفض إبعاد الدين عن جوهر الأنظمة التشريعية وعن ممارسة السلطة السياسية، متجاهلاً بذلك أو عاجزاً على استيعاب المذهب الإنساني العلماني وأخلاقياته الكونية.
هكذا وبسبب لجوئهم إلى هذه التصنيفات الجاهزة أثناء بحثهم عن هويتهم، ينزلق العرب نحو تبني روايات تاريخية يلعبون فيها إما دور الخصم اللدود أو دور الشخصية الثانوية – وليس دور البطل إطلاقاً.
ولا تزداد هذه الإشكاليات إلاَّ تفاقماً بسبب مجموعة من الأزمات المعاصرة التي يكفي لفهم نطاقها ومدى تعقيدها الاطلاع على عناوين الأخبار اليومية حول الحروب الأهلية الدائرة في العراق وسوريا واليمن وليبيا، والتي تَضلُع فيها تشكيلات متغيرة تشمل أطرافاً وتحالفات محلية ووطنية وإقليمية ودولية. فبعد ست سنوات من الثورة التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، ما زالت مصر تتخبط في حالة من التقلب المستمر، أما في البحرين والكويت وغيرها من مناطق الخليج فتظل التوترات قائمة بين السنة والشيعة.
ثم هناك إشكاليات أخرى مرتبطة بتنظيم «داعش» الذي تقوم أيديولوجيته وأنشطته وحملاته الدعائية المعادية للآخر على تسخيرٍ انتهازي للدين في خدمة السياسة. يُذكر أن أجندة التنظيم الجيو-سياسية قد ولدت قلقاً كبيراً حول مستقبل الأراضي العربية.
"من الواضح أن إنتاج خطاب بديل قد أصبح ضرورياً إن أُريدَ لهوية عربية قادرة على انتشال ذاتها من الهامش أن تخرج إلى النور: هوية قادرة على أن تتصالح مع نفسها وتُخلصها من قرون من التبعية المعرفية."
إلا أن محنة الشعب الفلسطيني تبقى من دون شك هي الأزمة الأبرز على الإطلاق، حيث لطالما وُصف فشل هذا الشعب في التخلص من قبضة الاحتلال الإسرائيلي بأنه الرمز الأكثر دلالة على وهن "العروبة" كمنظومة جيو-سياسية. ففي الوعي العربي المشترك، تقوم المحنة الفلسطينية مقام خاتمة الخواتم في مخطوطة دَوَّنها الحُكم الاستعماري بحروف غليظة.
وتواصل الهوية العربية العيش فيما يشبه حياة البرزخ، فكلما استُخدمت في المحادثات اليومية تجدها تكشف تلقائياً عن الغموض الشديد الذي يكتنف جوهرها. فمن الواضح أن إنتاج خطاب بديل قد أصبح ضرورياً إن أُريدَ لهوية عربية قادرة على انتشال ذاتها من الهامش أن تخرج إلى النور: هوية قادرة على أن تتصالح مع نفسها وتُخلصها من قرون من التبعية المعرفية وعقود من النزاعات الإقليمية التي واكبها العنف المسلح والركود الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والجمود الفكري.
وسعياً منه إلى تسليط الضوء على الأسئلة الكثيرة المرتبطة بالهوية والإرادة العربيتين في القرن الـ21، يُطلق «مركز دلما للدراسات» مشروع «أطياف»، وهو مشروع ثنائي اللغة ومتعدد النطاقات المحلية، مصمَّم لطرح الأسئلة الصعبة التي تتطلب أجوبة دقيقة ومفصلة.
وإذا كان «أطياف» يتخذ منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا كمنطلق جغرافي لتحرياته، فإنه لن يقتصر على هذه المنطقة أو على ساكنتها المؤلفة أساساً من العرب، حيث يهدف «أطياف» إلى تسليط الضوء على مختلف مناحي الالتقاء والتلاقح والتكوين والتحول التي ميزت التاريخ المتراكم والتعددي المرتبط بالمنطقة.
إضافةً إلى الانكباب على أبحاث موضوعاتية تتطرق إلى مشاهد وأوضاع عربية بعينها، سيهتم «أطياف» كذلك بالأهالي العربية التي غادرت المنطقة في وقت مضى وتلك التي جاءت إليها أو لعلها لم تبرحها قط. ومن بين الموضوعات المطروحة نذكر موضوع الجاليات العربية المقيمة في الخارج، حيث إن عملية اندماجها داخل ثقافات وأنظمة سياسية جديدة يمثل فرصة للوقوف على خبايا عملية تشكُّل وإعادة تشكيل الهوية في أرض المهجر، كما لو أنها مرآة بالنسبة لـ"الوطن الأم" إذا صح المجاز. نموذج آخر تجدر إليه الإشارة في هذا الصدد يحيلنا على تاريخ ومسار الأقليات التي شكلت ولا تزال جزءاً جوهرياً من الهوية – أو لنقُل الهويات – العربية. فكيف أثرت هويات أولئك الذين لا يعتبرون أنفسهم – أو لا يمكنهم أن يعتبروا أنفسهم – عرباً على هويات نظرائهم في "العالم العربي"، وكيف تأثرت هوياتهم مقابل ذلك؟ للإشارة فإننا بين هذه الدراسة وتلك سوف نستكشف عن طريق تمثيلات بصرية مكثفة عدداً من النصوص ذات الصلة والأناشيد والأعلام الوطنية.
هذا ويتصور مشروع «أطياف» كل دراسة من دراساته على أنها طيف يخترقه سؤال رئيسي فيتفرق مثل الشعاع في اتجاهات مختلفة. وبانتهاج مقاربة سياقية لسؤال الماضي، يأمل «أطياف» أن يزيح الستار عن غيرية الحاضر وأن يعثر في دواخل هذا الحاضر على معالم طريق تهدي إلى مستقبل – أو هي مستقبَلات عدة – ينعم بمحاسن النقد الذاتي.