الفصل الرابع

مجاهدون بلا حدود

استفادت الجماعات المسلحة لسنین عدیدة من ضعف أجهزة الدولة في المنطقة المغاربیة، حیث استغلت المناطق النائیة وحققت أرباح وفیرة من تجارة التهریب. ووفق التاریخ المعاصر، تعود جذور الجماعات الجهادیة المسلحة في بلاد المغرب إلى الحرب الأهلیة التي عاشتها الجزائر في تسعینیات القرن ال 20 وبدایة القرن ال 21، غیر أن التغیرات الأیدیولوجیة وظهور نوع جدید من النشاط المسلح على مستوى العالم أدى إلى حصول تحول ملحوظ برز معه تیار جهادي "بلا حدود".

وكانت إحدى الفصائل التي شاركت في الحرب الأهلیة الجزائریة، وهي الحركة السلفیة للدعوة والقتال، قد غیرت مسماها في 2007 لیصبح القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، سعیاً منها للانضمام إلى الحركة الجهادیة الدولیة التي یقودها تنظیم القاعدة. وفي ظل انعكاسات ثورات 2011 في المنطقة، بدأ محور جهادي جزائري-تونسي-لیبي في التشكل، مكرساً الطابع عبر- الوطني لحركة كانت في الأصل جزائریة في مجملها.

ویمكن اعتبار القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والجماعات التابعة لها تنظیمات عالمیة-محلیة، حیث تمزج بین العقیدة الجهادیة الدولیة ومشاعر الحنق السائدة في المنطقة، كما تضم مقاتلین من مختلف جهات المنطقة المغاربیة والساحل.

وعقب الثورات في تونس ولیبیا، حاولت القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي استغلال الفراغ الأمني من أجل تعزیز علاقاتها مع الجماعات المتواجدة في هذین البلدین. وقد مكنت سهولة اختراق الحدود من تیسیر التواصل بین الجماعات المسلحة التونسیة والجزائریة عند جبل الشعانبي.

هذه بلدة إن أميناس بالجزائر، وهي تبعد عن منشأة الغاز تيقنتورين بحوالي 40 كلم. في 2013 تعرضت هذه المنشأة لهجوم بقيادة مختار بلمختار. «أستريوم» 2013

وقد أصبحت القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على مدى العقد الأخیر المنظمة الجهادیة الأغنى في شمال إفریقیا، وقد اشتهرت بنهجها لأسلوب الهجوم و المراوغة وبالتهریب واختطاف الرهائن وطلب فدیات تصل إلى ملایین الدولارات. واعتمدت الجماعة نظاماً إداریاً یقوم على تقسیم وتوزیع مناطق النفوذ، وهو نظام سبق أن جرَّبته الجماعة خلال الحرب الأهلیة الجزائریة. یقضي هذا النظام بتولي مقاتل برتبة أمیر وسریته مسؤولیة قطاع من الأراضي الجزائریة والأراضي التي تقع جنوبها، بما یسمح للجماعة بالتوسع في اتجاه منطقة الساحل، حیث تستفید الجماعة من بُعد هذه الأخیرة لتحقیق مداخیل وافرة من التهریب والبقاء بعیداً عن أعین السلطات. كما تمكن التكنولوجیات الحدیثة مثل نظام تحدید المواقع بالأقمار الصناعیة والهواتف الساتلیة المجاهدین والمهربین من تنسیق نشاطاتهم وإخفاء الأسلحة والمعدات في الصحراء إلى حین استعمالها.

أما فرع القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة الساحل فقد تمكن هو الآخر من اكتساب ما یكفي من القوة لیصبح قادراً على شن عملیاته بصورة مستقلة عن التنظیم المركزي، وإن كان لا یزال تابعاً لها نظریاً.

السید مارلبورو

في محور هذا التحول نحو الجنوب الشاسع والإغراءات المالیة التي تمثلها عملیات الاختطاف والتهریب، نجد شخصیة مختار بلمختار. فهذا الجزائري المعروف بعدة ألقاب – منها السید مارلبورو والأعور والمراوغ – یجسد لوحده التیار الجهادي العابر للحدود، ویعتبر أحد أكثر الشخصیات غموضاً في عالم الظل والمخططات في بلاد المغرب ومنطقة الساحل، حیث یعد رمزاً في التطرف الجهادي والتهریب، وإن كانت طموحاته التجاریة لا تعكس أیة قناعات أیدیولوجیة حقیقیة. ولعل هذه المفارقة بین الإجرام والجهاد تغذي الأسطورة التي تحیط بشخص بلمختار.

بعد خضوعه للتدریب في سن التاسعة عشرة في مخیم لتنظیم القاعدة في أفغانستان، حیث یزعم أنه فقد عینه بسبب شظایا قذیفة روسیة هناك، عاد بلمختار إلى الجزائر، لینضم بعد ذلك إلى الجماعة الإسلامیة المسلحة التي كانت وقتها أهم جماعة مسلحة تقاتل الدولة الجزائریة خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلیة. بعدها تولى بلمختار قیادة سَرِیة تابعة للجماعة السلفیة للدعوة والقتال التي انشقت عن الجماعة الإسلامیة المسلحة سنة 1998 بسبب الأسالیب الوحشیة التي كانت تنتهجها هذه الأخیرة، حیث أدار شبكة هجینة في جنوب الجزائر، جمعت بین التهریب واختطاف الرهائن ومحاربة الدولة.

ویقال إنه في إطار مقاربة مزدوجة رامیة لجمع الأموال، قام بلمختار بتهریب سلع متنوعة تضمنت في معظم الأحیان السجائر والمواد الغذائیة والأسلحة، وطلب الفدیة مقابل إطلاق سراح رهائن من دول غربیة. ورغم أن الشكوك تظل تحوم حول حقیقة مشاركته الفعلیة والمباشرة في هذه النشاطات، فإن الأرباح المحققة منها مكنته من إقامة تجارة تهریب مربحة في "المنطقة التاسعة" حسب تقسیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهي منطقة في شكل حزام ترابي یقطع الجزائر من الوسط ویتاخم لیبیا وصولاً إلى مالي والنیجر.

وقد تزعّم بلمختار، تحت قیادة عبد المالك دروكدال، سَرِیة تابعة للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كما أُمر باكتساب أسلحة وأموال لفائدة الوحدات الشمالیة. وبحلول سنة 2008 كان بلمختار ومسلحو تنظیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي قد اختطفوا عدداً من العمال والسیاح الأجانب، ولعل الفدیات التي دُفعت للمسلحین بین سنة 2008 وسنة 2012 تتراوح بین 45 ملیون و 150 ملیون دولار أمریكي، حتى بات ممكناً إطلاق لقب "السید فدیة" على بلمختار لأن الفضل یرجع له في تسویق عملیات اختطاف الأجانب.

أما المقاربة الثانیة التي انتهجها بلمختار لجمع المال فقد قامت على تهریب السجائر، حتى بات یُطلق علیه لقب "السید مارلبورو". وتعتبر تجارة التبغ مورداً هاماً للربح حیث بلغت قیمة السجائر المهربة في شمال إفریقیا ما یفوق الملیار دولار .أمریكي في 2013

ویقال أن حوالي 20 بالمائة من تمویل الإرهاب في العالم مصدره المتاجرة غیر المشروعة في السجائر، مع العلم أن مداخیل العصابات الجهادیة من تجارة السجائر المهربة مصدرها الحقیقي هو رسوم الحمایة المفروضة على مهربي السجائر غیر الخاضعة للضرائب عبر الأراضي الصحراویة ولیس من التهریب مباشرة.

كما أن نسبة كبیرة من السجائر المتداولة في المنطقة هي عبارة عن منتجات مقلدة قادمة من الصین وفیتنام، تدخل إفریقیا عبر موانئ في خلیج غینیا ومن هناك یجري نقلها عبر مراكز توزیع لیتم استهلاكها في مختلف أرجاء المنطقة. كما یجري تهریب العلامات التجاریة الأصلیة القادمة من شبه الجزیرة العربیة – ومن بینها "مارلبورو" و"غولواز" و"لیجند" إضافة إلى "غولد سیل" – عبر المنطقة وصولاً إلى أوروبا.

ویعتبر الجمع بین الهجمات الجهادیة والنشاطات الإجرامیة مظهراً من مظاهر تحول بلمختار إلى رجل عصابة جهادیة، الأمر الذي یرجع جزئیاً إلى التحول الاستراتیجي الكبیر الذي عرفته العقلیة الجهادیة بصفة عامة في المنطقة. فهذا التحول الوجودي الذي جاء رداً على الغزو الأمریكي للعراق في 2003 قد صاحبه تحول في أولویات جماعة بلمختار التي ارتأت تأجیل حلم إقامة دولة إسلامیة في الجزائر لمحاربة "العدو البعید" في مختلف أرجاء المنطقة وتوفیر الأموال اللازمة لذلك.

من بين علامات تزايد التطرف في الجزائر والمناطق المجاورة لها انتشار الكتابات الجدارية المناصرة للجبهة الإسلامية للإنقاذ، كما يظهر ذلك في هذه الصورة التي تتضمن مقولة مفادها "إما دولة إسلامية أو الجهاد". باسكال باروت/«كوربيس»

ورغم أن بلمختار یعد العقل المدبر لمخطط الفدیات الذي جعل من القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أغنى فروع تنظیم القاعدة، فإن ذلك لم یقه من خلافات مع قائده دروكدال الذي بات یخشى أن تشتد شوكة تابعه. وقد تجلى هذا التوتر بین الرجلین في تفضیل دروكدال لعبد الحمید أبو زید على حساب بلمختار لتزعم المنطقة الصحراویة حسب خارطة تنظیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

وبعد سنوات من الحزازات والمشاحنات مع قیادة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أعلن بلمختار رحیله في 2012، آخذاً معه سریته التي باتت تعرف باسم "الملثمون" ومواصلاً إعلان ولائه لتنظیم القاعدة الأم وأیدیولوجیته.

وقد كانت جماعة بلمختار محط اهتمام العالم في ینایر 2013 إثر الهجوم المروع الذي شنته على محطة لإنتاج الغاز في تیقنتورین بالقرب من مدینة إن أمیناس التي لا تبعد إلاَّ 80 كم عن الحدود الجزائریة اللیبیة. وقد أسفرت العملیة التي نفذتها كتیبة خاصة من داخل الجماعة تعرف باسم "الموقعون بالدم" عن مقتل 40 رهینة إثر غارتهم الأولى وما تلاها من مواجهات مع القوات الخاصة الجزائریة.

ویسلط هذا الهجوم الضوء على الدینامیات داخل الجماعات الجهادیة عموماً وعلى الأهداف الجیو-سیاسیة التي تكمن وراء نشاطات بلمختار خاصة. فقد جاء هذا الهجوم عقب التدخل العسكري الفرنسي في شمال مالي في أوائل 2013، والذي أجبر الجماعات الجهادیة على مراجعة استراتیجیتها. وفي وقت لاحق من ذاك العام، اندمجت جماعة "الملثمون" بقیادة بلمختار مع "حركة التوحید والجهاد" الطوارقیة في غرب إفریقیا لتشكیل جماعة "المرابطون"، في وقت كانت الجماعتان تسعیان فیه إلى جمع شتاتهما بعد التدخل العسكري الفرنسي.

وباعتبار انفصاله حدیثاً عن تنظیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ورغبته في إبراز مكانته، جاء هجوم إن أمیناس لیثبت عزیمة بلمختار على تصعید حربه ضد الدولة الجزائریة رداً على تدخلها في مالي، فكانت الضربة التي وجهها لجوهر النموذج الاقتصادي الجزائري، أي صناعة المحروقات، بل وفي موقع مشدد الحراسة، ذات مغزى ورمزیة واضحین.

وبانطلاقه من جنوب غرب لیبیا – أي من منطقة استراتیجیة تلتقي فیها طرق التهریب الرئیسیة – أكد الهجوم على أن هذه المنطقة المهمة أصبحت ملاذاً آمناً بالنسبة لبلمختار بعد أن أجبره التدخل الفرنسي على الفرار من مالي.

وقد أدت التخوفات المرتبطة بغیاب دولة مركزیة قویة في لیبیا وانتشار الأسلحة والمقاتلین في النواحي إلى تكثیف البحث عن هذا الجهادي المتملص ، بل إن الدعوات تكررت من أجل تدخل أجنبي في جنوب البلاد. كما یُذكر أن فرنسا أعادت نشر قواتها العسكریة في منطقة الساحل في 2014 لمواجهة الجماعات الجهادیة الكثیرة التنقل هناك.

وتحت وطأة هذه الضغوط اضطرت الجماعات الجهادیة في بلاد المغرب إلى إعادة النظر في استراتیجیاتها وتحالفاتها لتضمن استمراریتها في سیاق جیو-سیاسي دائم التقلب. وفي تطور بارز للأحداث، أعلن دروكدال في دیسمبر 2015 عن انضمام جماعة "المرابطون" لتنظیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ما یفترض إصلاح الخلافات بینه وبین بلمختار.

تعتقد مسعودة لافي المقيمة ببنقردان أن ابنها البكر محمد قد لقي حتفه أثناء مشاركته في القتال الدائر في سوريا في أبريل 2012. أنيس ميلي/«رويترز»

مقاتلون من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يكتبون الشهادة بواسطة أسلحة وذخائر. يُعتبر هذا التنظيم أغنى تنظيم جهادي في شمال إفريقيا. «صوت أمريكا»

هذا و یسود المشهد الجهادي الإقلیمي كذلك تحولاً مستمراً. فقد اشتعل فتیل الصراع بین تنظیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظیم الدولة الإسلامیة في العراق والشام (داعش) حول مسألة ولاءات الجماعات الجهادیة المغاربیة، وذلك بعد إعلان العدید من الجماعات في 2014 عن ولائها لداعش، الأمر الذي قد یُمثل تحولاً محتملاً، إلا أن موقف داعش المتصلب تجاه أمور الحكم والعقیدة قد یحول دون قدرتها على بناء تحالفات محلیة من النوع الذي تمكَّن تنظیم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من بنائه والحفاظ علیه عن طریق احتضان قضایا الأهالي وتظلماتهم.

یُذكر أن بلمختار لطالما ناصر قضایا الأهالي القاطنین في المناطق المهمشة جغرافیاً وسیاسیاً، بغض النظر عمَّا إذا كان تضامنه هذا نابعاً عن قناعة حقیقیة أو لمجرد تحقیق المنفعة المتجلیة في تأمین ملاذات آمنة عبر منطقتي الصحراء والساحل، أو للسببین معاً. للتذكیر فإن الجماعات الجهادیة قد تمكنت من خدمة مصالحها عبر استغلال المعضلات الاجتماعیة المحلیة، كندرة فرص العمل والإقصاء السیاسي، وفي نفس الآن لعبت دوراً رئیسیاً في حركة التمرد التي شهدتها مالي.

وبإدراكه لأهمیة استمالة المجتمعات المحلیة في مناطق الساحل الشاسعة، نجح بلمختار في الاندماج مع هیاكل السلطة المحلیة عن طریق التحالف مع القبائل عبر اقتسام أرباح التهریب والفدیات، وكذا عن طریق الزواج، فقد ساعدته جذوره العائدة لقبائل الشعانبة العربیة الرحل على استغلال قربه للجنوب وربط علاقات مع مختلف المجموعات العرقیة في المنطقة.

وعلى الرغم من وجود عداوة تاریخیة بین الشعانبة والطوارق، إلا أن بلمختار تمكن من إقامة علاقات مع الطوارق الذین سیطروا على جزء كبیر من طرق التهریب عبر الحدود، والتي من أهمها طریق ملح قدیمة طولها 3200 كلم، والتي ما زالت تستخدم كطریق تجاریة وتمتد من الساحل الغربي لإفریقیا مروراً بتمبكتو في مالي وصولاً إلى الجزائر.