الفصل الأول

السلطة والهوامش

حذر ابن خلدون من أن الدولة الضعیفة "تأخذ في التناقص من جهة الأطراف" أي في الأراضي الحدودیة أولاً. هذه الملاحظة تظل قائمة في عالم تحكمه التوجهات عبر الوطنیة التي تتهدد الحدود ومعها سلطة الدولة.

وتمثل موجات الهجرة والتهریب والتطرف المسلح أهم التحدیات التي تدفع الدول إلى تعزیز سیطرتها على حدودها. لذا یشهد العالم العربي، والمغاربي على وجه الخصوص، انتشار مجموعة من الأسوار والأسیجة والحواجز الرامیة إلى تقیید المساحات والأراضي والسیطرة علیها وعلى من یقطنها.

وقد ارتسمت الملامح الأولى للحدود الحدیثة التي نعرفها الیوم في المنطقة المغاربیة، أو ما یعرف إصطلاحاً ب"بلاد المغرب"، إبان حكم دول سابقة كتب عنها ابن خلدون منذ حوالي ستة قرون. فالحدود الإقلیمیة نشأت بصورة طبیعیة على مشارف الطرق التجاریة القدیمة الرابطة بین شمال إفریقیا ومنطقة الساحل، قبل أن تخضع الدول التي كانت تسیطر على هذه الأراضي إلى نفوذ العثمانیین والأوروبیین.

رسم من إنجاز تشارلز جافارد للسلطان الحفصي المولى أبو عبدالله الحسن يعود إلى فترة ما بين 1870 - 1826. تستند العديد من الخطوط الحدودية القائمة حالياً في المنطقة المغاربية إلى حدود وُضعت خلال حكم الدولة الحفصية.

كما أن الحدود التي وضعتها القوى المستعمرة آنذاك استندت بشكل كبیر إلى المعالم الحدودیة المحیطة بالأراضي التي كانت تحت حكم الدول المتعاقبة على المنطقة، مثل الحفصیون، حكام إفریقیة السابقین، الذین تمركزت سلطتهم في ما یعرف الیوم بتونس. وللإشارة فإن ابن خلدون نفسُه قد خدم البلاط الحفصي خلال فترات متفرقة من القرن 14 م.

وكان ابن خلدون منظراً اجتماعیاً سابقاً لعصره، حیث استطاع تصور الحدود كمُكون سیاسي قبل زمن طویل من ظهور مفهوم الحدود كما نعیه الیوم. وقد ركز في نظریته على العلاقة السیاسیة بین مركز السلطة والأطراف – أي الأراضي الهامشیة جغرافیاً والخاضعة لهذه السلطة.

أما الیوم، فتمثل الحدود نوعاً من النظام الإقلیمي، وإن كانت الصراعات المعاصرة تتعارض مع هذا الطرح، حیث تعطي الاضطرابات التي تشهدها سوریا والعراق مثلاً في الآونة الأخیرة انطباعاً بأن هذا النظام في طریقه إلى الانهیار وأن الحدود سیعاد رسمها أو لعلها ستختفي نهائیاً. ومع ذلك تظل الدول عادةً متشبثة بسیادتها وتعتبر حمایة حدودها أمراً مقدساً.

لذا فإن تحذیر ابن خلدون حول أهمیة الأطراف یظل صالحاً الیوم في ظل تنامي التدفقات الاقتصادیة عبر الحدود وهشاشة عملیات الانتقال السیاسي وتوتر التوافقات الاجتماعیة وتكاثر المزاعم المتعلقة بالهویة وتفشي الفكر الجهادي – كلها حقائق باتت تشكل تهدیدات متفاقمة لسلطة الدولة وهیبتها. هذا ناهیك عن الأواصر القویة التي تجمع سكان الأراضي الحدودیة بالساكنة على الطرف الآخر من الحدود؛ أواصر قد تكون أقوى أحیاناً من تلك التي تجمعهم بعاصمة بلدهم.

یقول ولیام زارتمان إن الحدود تمر "عبر" الأراضي ولكن تمر"ما بین البشر" كذلك، كما یُعرف عن الأراضي الحدودیة على أنها "حواجز ذات عمق ومساحة حول خط مُعین، وهي المكان الذي تلتقي فیه الدولة بالمجتمع".

وإن كانت منفصلة عن السلطة المركزیة، تظل الحدود ترمز للهویة الوطنیة في الأذهان كما على الخرائط، مع أن خطوطها لا تعكس دائماً الواقع الاقتصادي والاجتماعي ولا حتى السیاسي. بل إن الحدود في بلاد المغرب لا تمثل في الأساس بدایة سیادة دولة ما أو نهایتها، إذ هي لیست مجرد خطوط مرسومة، بل یمكن اعتبارها أراضي عازلة ینشأ فیها التفاعل بین دولتین أو أكثر. هذه المساحة الفریدة من نوعها تدعى الأراضي الحدودیة.

لا یمكن فهم الأراضي الحدودیة في الجزائر وتونس ولیبیا من دون وضعها ضمن نطاق جیوسیاسي مغاربي أوسع. وعلى الرغم من أن بلاد المغرب تضم دول أخرى كالمملكة المغربیة وموریتانیا، تقتصر هذه الدراسة الى الجزائر وتونس ولیبیا لتلاقي حدودها الثلاث عند الصحراء الكبرى، مكونة جسم واحد من الأراضي الحدودیة.

تشكل الحدود الثلاث بین الجزائر وتونس ولیبیا والتي تمتد بمسافة تفوق ال 24 الف كم مساحات متشعبة ومترابطة في ذات الآن. كما أن المناطق الحدودیة التي تجمعها تربطها هویات لتاریخ مشترك نتج عن ظروف المنطقة الإجتماعیة والجغرافیة والسیاسیة المشتركة.

قافلة تجارية تسير على طريق قديمة سنة 1900 تقريباً فوق تراب يقع اليوم تحت سيادة الجزائر. يذكر أن هذه الطريق وغيرها تتشعب في المنطقة المغاربية والساحل مخترقة في العديد من الأحيان الخطوط الحدودية التي تم رسمها بعد جلاء الاستعمار.«جيتي»

المنظور المتداخل التخصصات المعتمَد في هذا البحث یقضي بتحلیل الدینامیات السائدة داخل الأراضي الحدودیة في كل من الجزائر وتونس و لیبیا ومن حولها بهدف التوصل إلى فهم أفضل لنقاط التَّماس التي تلتقي فیها الدول بالمجتمعات في الأراضي المغاربیة .

وتكمن أهمیة دراسة الحدود والمناطق الحدودیة في كونها ركیزة لفهم الاتجاهات عبر الوطنیة التي تؤثر في عالمنا والسبل التي تنتهجها الدول لمواجهتها. فالمنظور المتداخل التخصصات المعتمَد في هذا البحث یقضي بتحلیل الدینامیات السائدة داخل الأراضي الحدودیة في كل من الجزائر وتونس و لیبیا ومن حولها بهدف التوصل إلى فهم أفضل لنقاط التَّماس التي تلتقي فیها الدول بالمجتمعات في الأراضي المغاربیة .

تتميز الأراضي الحدودية في مختلف أرجاء العالم وليس فقط في بلاد المغرب بكونها أماكن تتداخل فيها الهويات عبر الوطنية وتنشأ فيها التوافقات الاقتصادية المبنية على قاعدة الاتكال المتبادل، كما تزدهر فيها تجارة التهريب ويسهل فيها إيجاد الملاذات الآمنة بالنسبة للمجموعات المسلحة. كذلك فإن الأراضي الحدودية فضاءات يسود فيها التنافس والتنازع بين الأيديولوجيات الثورية، حيث كثيراً ما تكون مسرحاً لانشقاقات داخل مجموعات عرقية يجمعها تاريخ واحد. لكن وللمفارقة، فإنها حتى بعد التفريق بينها لفترات طويلة تعيد لمَّ شملها لتتكاتف في وجه التحديات المشتركة.