الفصل الثالث

أسواق الشعب

ظلت المنطقة المغاربیة لقرون عدة نقطة محوریة لعبور تجار الرقیق والذهب والملح، إلا أن الحدود التي رسمتها الدول المعاصرة فیما بعد اخترقت هذه المعابر، ومكنت الساكنة المحلیة من الاستفادة من عملیة بیع السلع المدعومة من طرف الحكومة عبر الحدود. وقد استغلت هذه التدفقات في التجارة غیر النظامیة مسالك موجودة أصلاً لتُكسبها مشروعیة ثقافیة واقتصادیة، وإن كانت الحكومات ترى أن التبادلات التجاریة عبر الحدود غیر مشروعة.

وكان القذافي في خطاب له سنة 1988 قد أشار إلى أهمیة التجارة غیر النظامیة، وأشاد بالأشخاص الذین كانوا وراء إنشاء الأسواق السوداء، والتي فضّل تسمیتها ب"أسواق الشعب". فقد كانت هذه التجارة تخدم أجندته الشخصیة، حیث كان النظام یتحكم في معظم نشاطاتها ویحقق منها مكاسب مهمة.

إضافة إلى مأسسة التجارة غیر النظامیة المدعومة من طرف النظام الحاكم في لیبیا وتونس في عهدي الرئیسین القذافي وبن علي، كان للعوامل الجغرافیة تأثیراً حاسماً في مصیر هذا النشاط الاقتصادي. فعلى الخط الحدودي الممتد على مسافة تناهز ألف كیلومتر بین الجزائر وتونس مثلاً، تعتبر القمم والودیان التي تشكل الأطراف الشرقیة القصوى لسلسة جبال الأطلس مرتعاً لشبكات تهریب غایة في التعقید، فیما تستفید بعض الجماعات الجهادیة من تضاریس جبال الأوراس والشعانبي، حیث جعلت من مرتفعاتها وودیانها مخبأً لها من قوات الأمن.

وقد ساهمت حركات التمرد المتعددة التي شهدتها المنطقة، إضافة إلى بروز النشاط الجهادي، في تحویل منحى التجارة الحدودیة باتجاه تهریب الأسلحة. هذا وقد اتسعت رقعة نشاط شبكات التهریب لتشمل سلعاً محظورة أخرى أبرزها التبغ المهرب في ثمانینیات القرن الماضي والكوكایین في أواسط العقد الأول من الألفیة الثالثة.

رغم أن السلع المحظورة تسترعي معظم الاهتمام، یظل البنزین والمواد الغذائیة الأساسیة المدعومة مثل السمید والسكر والمعجنات والحلیب المجفف هي أهم السلع التي تتم المتاجرة فیها في الصحراء رغم أن تصدیرها غیر قانوني. فمع مرور الوقت، اختلت التوازنات الاقتصادیة في المنطقة نتیجة سیاسات الدعم في الجزائر ولیبیا، حتى باتت المواد الغذائیة المهربة من الجزائر مثلاً مواد حیویة لضمان الأمن الغذائي في المناطق التي تعاني من الجفاف في شمال دولة مالي.

الاستثمار في "وول ستریت"

في ظل غیاب فرص التوظیف الرسمي والاستثمار، أصبح النشاط الاقتصادي غیر النظامي عبر الحدود یكتسب مشروعیة متزایدة، مما وضع السلطات الساعیة إلى السیطرة على التدفقات التجاریة الحدودیة أمام معضلة حقیقیة. فتضییق الخناق على هذا النشاط الاقتصادي الحیوي یهدد السلم الاجتماعي ویؤدي إلى صعوبة في التمییز بین ما هو رسمي وما هو غیر رسمي، وبین ما هو مشروع وما هو محظور.

ففي مدن كبنقردان، ازدهرت التجارة غیر النظامیة حین فرضت الأمم المتحدة عقوبات على نظام القذافي سنة 1992. وكانت لیبیا طیلة مدة العقوبات التي استمرت حتى 2003 قد مُنعت من استیراد المواد الغذائیة غیر الأساسیة بشكل مباشر، ما جعل من تونس مورداً حیویاً بالنسبة إلى اللیبیین، كما أنه عند إغلاق الحدود بین البلدین لفترات طویلة، كانت التجارة غیر النظامیة مصدر الدخل الأوحد للمجتمعات الحدودیة.

أضف إلى ذلك أن بنقردان طورت سوقاً للعملات سمح لنظام القذافي بالحصول على الرسامیل التي تلزمه في وقت الشدة، الأمر الذي كان تحقیقه غایة في التعقید، ما عزز النفوذ الاقتصادي للعصابات التي كانت تتحكم في التجارة غیر النظامیة. وقد انتشرت الظاهرة بشكل كبیر حتى أُطلق على أحد الشوارع في مدینة بنقردان تسمیة "وول ستریت" لكونه یحتضن صفوفاً متراصة من الأكشاك التي تتاجر في العملة بشكل غیر مشروع.

وحتى یومنا هذا، یواصل تجار العملة في بنقردان تحویل العملات المحلیة إلى الدولار والیورو من أجل شراء السلع المستوردة. ومع مرور الزمن، جرت مأسسة هذه الأنشطة حتى أصبحت مألوفة في مختلف الأراضي الحدودیة في المنطقة.

ونظراً لكون المهربین لم یعودوا أفراداً معزولین ینشطون في بیئات محدودة ومغلقة، فقد بات تمییزهم عن غیرهم مسألة أكثر تعقیداً. ففي ظل حجم الاقتصادات غیر النظامیة ونطاقها على المستوى الدولي، بات المهربون یلعبون أدواراً عدة. فَهُم یشغلون وظائف قانونیة ویعیلون أسرهم ومجتمعات بأكملها، كما أنهم لا یشكلون سوى حلقة في سلسلة تورید متشعبة، حیث إن العدید من الجهات تلعب عمداً أو عن غیر وعي دوراً في هذه التجارة ، ویشمل ذلك الناقل والجمركي وموظف الأمن والمصرفي والشركات متعددة الجنسیات.

وللإشارة فإن هذا الاقتصاد الموازي الذي تزدهر فیه أنشطة التهریب یساهم في تقلیص معدلات البطالة بین ساكنة المناطق الطرفیة، كما ینزع فتیل السخط الاجتماعي ویبطئ وتیرة الهجرة القرویة.

بحلول أكتوبر 2011، بدأ سكان قرية الزهور، التي تُعد من أفقر القرى في ولاية القصرين، بالشعور بأثر سقوط الرئيس بن علي بعد أن استغل المهربون عدم استقرار الأوضاع لترويج تجارتهم. موسى سامان/«ماجنم»

الدعم والتهریب

لا تنشط التجارة غیر النظامیة في الظل بالضرورة، والدلیل على ذلك ازدهار أسواقها في الهواء الطلق في بنقردان، وضلوع مسؤولي الدولة فیها.

ومع ذلك فإن فرص التجارة غیر النظامیة لا تخلقها الإكراهات الاقتصادیة فقط، بل إن تضاریس المنطقة الحدودیة بین الجزائر وتونس، والتي تتمیز بجبالها وغاباتها والقرى المنتشرة بكثافة في كلتا الجهتین، توفر بدورها غطاءً مثالیاً لأنشطة التهریب.

فعلى الجانب التونسي من الحدود، تُخفي مدینة القصرین تحت مظهرها غیر الممیز مدینة تتداخل فیها الظروف الإجتماعیة السیاسیة لما بعد الثورة مع الظروف الاقتصادیة في المناطق الحدودیة ،

فعلى الجانب التونسي من الحدود، تُخفي مدینة القصرین تحت مظهرها غیر الممیز مدینة تتداخل فیها الظروف الإجتماعیة السیاسیة لما بعد الثورة مع الظروف الاقتصادیة في المناطق الحدودیة ، فكغیرها من المناطق الطرفیة، لا تحظى ولایة القصرین وعاصمتها التي تحمل ذات الاسم بمثل الازدهار ولو النسبي الذي تعرفه العاصمة تونس والمدن الساحلیة في البلاد.

ویُذكر أنه في هذه المنطقة غالباً ما تتخذ السیاسات المحلیة بُعداً عبر-وطني حیث إن آثار القرارات الاقتصادیة التي تتخذها عاصمة بلدٍ ما لها تداعیات عابرة للحدود. على سبیل المثال، فإن الدعم السخي للمنتوجات الطاقیة في الجزائر یُؤثر على اقتصاد تونس. ففي حین یصل دعم الطاقة في الجزائر إلى 9.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، لا تتجاوز النسبة في تونس المجاورة 3.3 بالمائة. ولذلك فحسب أسعار سنة 2014 ، ظل سعر اللتر الواحد من البنزین في الجزائر في حدود 0،27 دولاراُ أمریكیاً، مقابل 0،91 دولاراً في تونس، الأمر الذي یُحفز أنشطة التهریب.

ولا تقتصر البضائع المهربة عبر الحدود المغاربیة على الوقود فقط ، بل یتسع نطاق التجارة غیر النظامیة لیشمل الأجهزة الإلكترونیة من آسیا، والمواد الغذائیة من مختلف مناطق بلاد المغرب، وحتى الأسلحة القادمة من لیبیا حیث تُنقل هذه البضائع على امتداد الطرق عبر-الوطنیة. و یُقدِّر البنك الدولي انه من مجموع السلع المتداولة بین تونس والجزائر، 98 بالمائة تتخطى المراكز الحدودیة الرسمیة في تونس.

ورغم اتساع نطاق هذه التجارة، إلا أنه توجب على المهربین إیجاد طرق مبتكرة لتفادي نقاط الأمن على الحدود، ومن ثم نجد مثلاً أن منظر حمار مُحمل بما قد یتجاوز 20 صفیحة من الوقود عبر الحدود الجزائریة-التونسیة بات منظراً عادیاً بل ورمزاً من رموز هذه التجارة حتى في زمن العولمة.

یتسم تقییم المهربین للظروف الإجتماعیة-الإقتصادیة في القصرین بالصراحة والوضوح، حیث یزعمون أن. التهریب هو الطریقة الوحیدة للعیش نظراً لندرة فرص العمل

و یتسم تقییم المهربین للظروف الإجتماعیة-الإقتصادیة في القصرین بالصراحة والوضوح، حیث یزعمون أن التهریب هو الطریقة الوحیدة للعیش نظراً لندرة فرص العمل . وعلى الرغم من أن ولایة القصرین، التي یُعد فیها واحد من أصل كل خمسة سكان على الأقل عاطلاً عن العمل، تُوفر صورة نموذجیة عن الحیاة في المناطق الحدودیة، إلا أن التفاوتات الاقتصادیة عامة لیست حكراً على القصرین ولا حتى على تونس، بل إن العدید من المناطق عبر بلاد المغرب تعاني من تباینات هیكلیة مماثلة.

تنتشر مثل هذه الأكشاك غير النظامية لصرف العملات في المنطقة الحدودية بين تونس وليبيا. وقد تمت 'دمقرطة' تجارة التهريب في ظل غياب أجهزة الدولة القادرة على إنفاذ الأنظمة والقوانين بعد إسقاط النظام في 2011. خالد مشرقي/«جيتي»

ویُعتبر "التراباندو"، أي المهربون باللغة الدارجة محلیاً، متجذرین بین الأهالي، حیث یُحتفى بمغامراتهم التهریبیة عبر مقاطع فیدیو على موقع یوتیوب مفعمة بموسیقى الأفلام التشویقیة. وتعتمد مدینة تبسة الجزائریة البالغ عدد سكانها 300 ألف نسمة على التجارة غیر النظامیة بشكل كبیر، حیث تسیر الشاحنات الصغیرة المُحَملة بالوقود على نحو متواصل باتجاه الحدود التونسیة. وقد تحولت أحیاء كاملة في مدینة تبسة إلى مخازن وقود مؤقتة، ما یؤكد تَوَسع نطاق أنشطة التهریب.

وإلى جانب كونها ملاذاً للتجارة غیر النظامیة، لعبت المناطق الطرفیة كالقصرین دوراً مهماً في سقوط نظام بن علي، حیث لا تبعد هذه الأخیرة سوى 80 كم عن مدینة سیدي بوزید التي قام فیها محمد البوعزیزي بإحراق نفسه في دیسمبر 2010 لكن لم تتطور إلا في ینایر 2011 في حي الزهور، الذي یُعتبر واحداً من أفقر الأحیاء في ولایة القصرین، حین تحولت الاحتجاجات إلى حركة وطنیة إثر مقتل 22 شخصاً على ید قوات الأمن.

وجدیر بالذكر أن التجارة غیر النظامیة على الحدود التونسیة قد ازدهرت في عهد بن علي، حیث طور نظام الحزب الواحد علاقات حمایة مع مجموعة من التجار الذین قاموا بدورهم بتشكیل عصابات. وقد مكن هذا النظام الاقتصادي الذاتي المناطق المهمشة من تلبیة احتیاجاتها، بل أصبحت هذه طریقة حكم ملائمة بالنسبة للنظام الذي تمكن من تسخیر عائدات هذه التجارة لتوزیع الریع، كما سمحت الشراكة غیر الرسمیة بین عصابات التهریب وحكومة بن علي لقوات الأمن بفرض حد أدنى من الرقابة على عملیات تهریب البضائع المحظورة.

من التجارة غیر النظامیة إلى الجریمة المنظمة

لكن في 2011 فقدت العصابات المسیطرة على التجارة غیر النظامیة في تونس راعیها الأساسي وهي حكومة بن علي . فعقب اندلاع حالة الهیجان الشعبي في ذلك العام، انسحبت قوات الأمن من القصرین وتوقفت مؤسسات الدولة الأخرى، كإدارات مراقبة الحدود، عن العمل فعلیاً. وفي ظل غیاب الدولة وسیاستها المعتمدة على تنظیم التجارة غیر النظامیة عبر المحسوبیة والرشوة، انتشرت أنشطة التهریب على نطاق أوسع ونتجت عنها "دمقرطة" تجارة التهریب، وبذلك دخل المهربون عصرهم الذهبي واستغلوا الشلل الذي أصاب الحكومة أحسن استغلال، حیث أكدت شخصیات من الحكومة التونسیة تقلص قدرة هذه الأخیرة على الحد من عملیات التهریب، فقد قامت قوات الأمن بإحباط 3650 عملیة تهریب في 2010 مقابل حوالي 550 عملیة في 2011 و 2012 مجتمعتین.

ونظراً لكون المهربین باتوا ینشطون في ساحة أكبر ویواجهون مخاطر أمنیة أشد، فقد بدؤوا بتسلیح أنفسهم كنوع من تأمین الذات، مازجین بذلك بین التجارة غیر النظامیة والجریمة المنظمة.

وقد عززت الاضطرابات في لیبیا أنشطة تهریب البضائع المحظورة عبر حدودها، حیث أسال مخزون الأسلحة الذي كان في حوزة القذافي، وظهر في السوق السوداء على حین غرة، لعاب الانتهازیین والمحتالین والجهادیین اللذین وجدوها فرصة ذهبیة لنشر الأسلحة والذخائر والمتفجرات عبر بلاد المغرب، وقد خلق هذا الكنز المفاجئ فرصة لا تُعَوض بالنسبة لبعض المهربین للانتقال إلى التجارة الأكثر ربحیة، وهي تجارة الأسلحة.

كما سمحت الحدود التي تزایدت سهولة اختراقها بمجال أكبر من الحركة والتنقل بالنسبة للمقاتلین ولشحنات الأسلحة، حیث تحولت بعض المناطق الحدودیة التي ترزح تحت وطأة التهمیش الاقتصادي، والمتمثل خاصة في تفشي البطالة بین الشباب، إلى مسارح مفتوحة أمام الشبكات الإجرامیة والجماعات الجهادیة التي تستغل الساكنة المحلیة.