لقد أشعل انتخاب السبسي لمنصب الرئاسة في دیسمبر 2014 فتیل الاحتجاجات في المناطق الحدودیة التي دعمت بشكل كبیر الرئیس المنتهیة ولایته منصف المرزوقي، حیث اعتُبر المرزوقي رمزاً للقطیعة مع الماضي. وقد جسد المرشحان الرئیسیان الانقسام المناطقي الواقع في تونس، حیث احتشد مناصرو المرزوقي في الجنوب بینما تركز داعمو السبسي ضمن النخبة في المناطق الساحلیة.
وتستمر الیوم مظاهر اللامساواة الجهویة التي خلفها نظام بن علي، كما أذكت التصدعات الناشئة عن التنمیة الاقتصادیة غیر المتكافئة في ظل الأنظمة السابقة نیران الانقسامات السیاسیة، وهي تُشكل الیوم واحداً من أكبر التحدیات التي تواجهها عملیة التحول السیاسي في تونس.
صلات وطیدة عابرة للحدود
لم تكن السلطات التونسیة الجدیدة هي الوحیدة التي ورثت إهمال النظام السابق لمجتمعات المناطق الحدودیة، فحتى في لیبیا وجد قادة ما بعد الثورة أنفسهم أمام مهمة مستعصیة متمثلة في ضرورة حل الصراعات القبلیة المعقدة التي نشأت خلال فترة حكم معمر القذافي.
وقد غض القذافي الطرف عن التجارة غیر النظامیة في الأسواق السوداء التي كان یدعوها ب"أسواق الشعب"، بل وعمل على تشجیعها حیث سمح للأهالي بسد حاجیاتهم الاقتصادیة بهذا الشكل دون تحمیل الحكومة المركزیة لأعبائهم، في حین استغل المسؤولون الفاسدون هذا الوضع لمنفعتهم الخاصة.
وقد تمكن القذافي من خلال رعایته للتجارة غیر النظامیة وتفضیله لمجموعات معینة على حساب أخرى من التحكم في مجریات الأحداث الاجتماعیة والاقتصادیة في المناطق الحدودیة. وما نتج عن هذا من تنافسیة وعداوة بین العشائر المتجاورة لم یَصُب إلا في صالح القذافي مُمَكناً إیاه من السیطرة على التحركات الحدودیة بل والاستفادة من الأعمال التجاریة المصاحبة لها.
ویتمثل نموذج الحكم المفكوك هذا في منطقة فزان التي تضم معظم أراضي الجنوب الغربي اللیبي، وهي منطقة یصعب حكمها كونها صحراء في معظمها، كما أنها دائماً كانت مهمشة من طرف الدولة. ولم تحصد المجتمعات الفقیرة في فزان أیة منافع اقتصادیة تذكر من ثروات النفط والغاز التي تزخر بها المنطقة، حیث ظلت فرص العمل هناك منحصرة في الزراعة وعملیات التهریب واسعة النطاق.
تمكن القذافي من الحفاظ على النظام في المنطقة عن طریق شبكة من المجموعات المدعومة من الدولة التي سرعان ما انهارت بعد سقوط نظامه، ما أفضى إلى بروز الفوارق الإجتماعیة-الإقتصادیة.
وقد تمكن القذافي من الحفاظ على النظام في المنطقة عن طریق شبكة من المجموعات المدعومة من الدولة والتي سرعان ما انهارت بعد سقوط نظامه، ما أفضى إلى بروز الفوارق الإجتماعیة-الإقتصادیة خاصة بعد أن تحولت فزان إلى إحدى جبهات القتال الرئیسیة أثناء الحرب الأهلیة اللیبیة.
إن السیطرة على المناطق الحدودیة، وخاصة في فزان، تَعِد بفرص اقتصادیة مربحة، فقد استغلت عشائر مثل الزنتان – الذین لعبوا في الماضي دور الوسیط ضمن شبكة تهریب مترامیة الأطراف – الفراغ السیادي الذي نشأ بعد سقوط نظام القذافي لفرض سیطرتها على أجزاء من المناطق الحدودیة بین لیبیا وتونس.
أما في معبر راس جدیر الواقع بین لیبیا وتونس، فقد قامت عشائر أمازیغیة من مدینة زوارة – والتي تعرضت لقمع القذافي في السابق – بمحاربة عشیرة الزنتان العربیة بغرض السیطرة على الحدود. هذا وقد أدى قمع القذافي للهویة الأمازیغیة وتجلیاتها الثقافیة، بما في ذلك قمع تداول اللغة الأمازیغیة، إلى نتائج عكسیة تعززت معها حركة المقاومة الأمازیغیة وقادت الأمازیغ إلى استعادة السیطرة على الأراضي التي عاشوا فیها منذ أزمنة غابرة.
یذكر أن قرار العشائر الأمازیغیة الانضمام إلى القوات المناهضة للقذافي قد مكن هذه المجتمعات التي كانت منعزلة فیما مضى من إعادة ربط الأواصر مع عشائر أمازیغیة أخرى في تونس، مشجعة بذلك التعاضد الأمازیغي عبر الحدود. كما برزت صحوة عِرقیة أمازیغیة لیبیة مدفوعة بقوة السلاح وبفكرة التعایش عبر الوطني المشترك مع أمازیغ تونس. وقد ظهر هذا جلیاً في 2011 عندما اختار ما یُقدر بملیون شخص الاحتماء في تونس وما كان بأمازیغ تونس إلا أن استضافوا أشقاءهم الفارین عبر الحدود.
هكذا تحملت المجتمعات المهمشة في الأراضي الحدودیة - هي التي كانت تعیش أوضاعاً مزریة بطبیعة الحال – وطأة القوات المختلفة التي انطلقت منذ 2011، علماً بأن أسلوب حیاة أهالي الأراضي الحدودیة في تونس ولیبیا بالخصوص یظل عرضة للخطر مع تزاید نشاط المهربین المسلحین والمیلیشیات والجهادیین الذین یمثلون تهدیداً لمصادر رزق الأهالي.
لقد سیطرت الأنظمة السیاسیة في كل من تونس ولیبیا على الظروف الإجتماعیة-الإقتصادیة وتركت بصمتها العمیقة علیها، الأمر الذي نجم عنه الواقع الذي یعیشه هذان البلدان الیوم، فبدل أن یُشكل الاقتصاد غیر النظامي الذي ترعرع في "أسواق الشعب" مجرد هامش في الروایة التي تدور أحداثها في الأراضي الحدودیة، أضحى هذا الاقتصاد یشكل قلب القصة وروحها.