الفصل الثاني

الارتدادات الثورية

لطالما كان الشعور بانعدام الثقة هو الشعور الطاغي الذي تكنه المجتمعات الحدودیة للسلطة المركزیة في المنطقة المغاربیة. وخلال الاستعمار الفرنسي للمنطقة، عُرف غرب تونس وجنوبها الغربي بمسمى" مثلث الموت"، حیث تمركزت فیه القبائل المسلحة المعادیة للقوات الأجنبیة. وقد شمل المثلث مدن القصرین وقفصة وسیدي بوزید، والتي لعبت لاحقاً دوراً محوریا في الثورة التي أطاحت بنظام زین العابدین بن علي سنة 2011.

ولم تزد الأوضاع السیاسیة والإجتماعیة والاقتصادیة بعد الاستعمار إلا في تكریس ریبة المجتمعات الحدودیة في تونس ولیبیا تجاه السلطة المركزیة وفي تعزیز المعارضة.

هذا نموذج عن ظاهرة تمجيد شخصية معمر القذافي في مدينة سرت سنة 2000، ومن خلال حجم الصورة تبرز قدرة القذافي على نشر نفوذه في الجنوب الليبي. رضا فيتريانتو/«كوربيس»

وكنتیجة لمشاعر الظلم التي عانى منها تاریخیاً مواطنو تونس ولیبیا، جاءت الثورة في البلدین لتعید صیاغة علاقة الشعب بالدولة والحدود التي تمثلها. فالمناطق الحدودیة التي كانت لوقت طویل محل نزاع أصبحت بؤرة للمزید من الاضطرابات خلال الثورات وبعد انتهائها. كما أن الثورات خلفت ارتدادات في مختلف أرجاء المنطقة تمثلت في تآكل هیبة الدولة ودمقرطة تجارة التهریب وتمكین الجماعات المسلحة.

ولیست الاضطرابات بالأمر الجدید على المجتمعات الحدودیة، فظهور الحدود بمفهومها المعاصر أوائل القرن ال 20 سبق وأن زعزع التحالفات العشائریة والتجاریة التقلیدیة، حیث صارت بعدئذ الطرق التجاریة التاریخیة عبر الصحراء طرقاً خاصة بأعمال التهریب في حین تحولت شبكات التجار إلى عصابات متخصصة في مختلف أنواع الاتجار غیر المشروع. وقد انتهجت الدول التي قامت عقب انتهاء الاستعمار سیاسة شراء الاستقرار من خلال غض البصر عن الاقتصاد غیر النظامي. فعلى سبیل المثال، وضع بن علي في تونس نظاماً مبنیاً على المحسوبیة والارتزاق مكوناً من مسؤولین ورجال أعمال وعصابات تهریب، إذ حاول التحكم في الظروف الاقتصادیة والسیاسیة بهدف تحقیق الربح المادي .

ولم یزد نمط التطویر الاقتصادي غیر المتكافئ الذي یركز الاستثمارات في الحواضر بعیداً عن المناطق الحدودیة إلا في اتساع الفجوة بین المجتمعات الطرفیة ومؤسسات الدولة.

أثار إغلاق معبر رأس جدير في يناير 2013 غضب العديد من سكان بنقردان الذين يعولون على التجارة الحدودية لكسب قوتهم في منطقة تعاني من تفشي البطالة. «رويترز»

وفي مطلع الثمانینیات جاء قرار الدولة برفع الدعم عن المواد الغذائیة لیزید من مشاعر الإحباط في المناطق التونسیة التي كانت تعاني من إهمال الحكومة، كما أن سیاسة التعدیل الهیكلي التي جاءت بها تعلیمات صندوق النقد الدولي والتي دفعت رئیس البلاد آنذاك، الحبیب بورقیبة، للتعجیل بإصلاح برامج الدعم، شددت الخناق اقتصادیاً على المجتمعات الطرفیة، وهي التي كانت أصلاً تشتعل غضباً من السلطات في العاصمة التونسیة.

و كنتیجة لهذه الإصلاحات، تضاعفت أسعار السلع الأساسیة كالخبز وغاز الطبخ. هذا الارتفاع في الأسعار، مصحوباً بالصعوبات الاقتصادیة المتواجدة وقتها في المناطق الطرفیة الجنوبیة، أدى إلى اندلاع أعمال العنف، حیث استهدفت الحشود الغاضبة رموز الحكومة المركزیة والنخبة الغنیة، وتعرض خلال هذه الأحداث رجال الشرطة للهجوم، فیما نُهبت مباني الحكومة الإدارایة والمحلات التجاریة وأُضرمت فیها النیران.

شكل استیاء العاطلین عن العمل الذي أشعلت شرارته انتفاضة الخبز ضغطاً هائلاً على الحكومة، حتى أن القروض المشروطة التي تقدم بها صندوق النقد الدولي لم تفلح في معالجة العیوب الهیكلیة والتفاوتات الإقلیمیة في اقتصاد البلاد.

ومع استفحال التفاوتات الاقتصادیة والاجتماعیة في تونس، أصبحت المجتمعات الحدودیة أكثر قابلیة للخطاب المعادي للحكومة و للفكر الرادیكالي من أي وقت مضى. وفي ینایر 2011، جاء سقوط نظام بن علي، هو الذي خلف بورقیبة في 1987، عقب سلسلة من الحركات الاحتجاجیة التي شقت طریقها عبر المناطق القرویة في تونس، بما فیها "مثلث الموت"، حیث انتقلت الاضطرابات عبر حوض قفصة المنجمي في 2008 ثم عبر مدینة بنقردان في صیف 2010 قبل أن تصل إلى القصرین والمناطق الزراعیة قرب سیدي بوزید في دیسمبر 2010.

وفي معظم الأحیان، قاد هذه الحركات التي نشأت في مناطق مهمشة من البلاد شباب من أدنى وضع إقتصادي یعانون من تفشي البطالة ویكسبون عیشهم من الاقتصاد غیر النظامي.

هذه الضائقة الإجتماعیة-الإقتصادیة تجلت بوضوح في منطقة الجفارة الواقعة على الحدود بین تونس ولیبیا، وهي عبارة عن سهل رملي تتخلله أهوار ویقطعها خط حدودي تشكل موطناً لساكنة تعتمد في عیشها على التجارة عبر الحدود. فقبائل ورغمة العربیة والأمازیغیة والتي تنحدر من مدینة بنقردان الحدودیة في تونس ومنطقة الجفارة الكبرى عاشت في المنطقة منذ القرن 17 على الأقل و أدارت أمورها تاریخیاً بشكل شبه استقلالي. بل یعود هذا المیل نحو الاستقلالیة الى 1881 حیث وصل الأمر بالقبیلة إلى المطالبة بجمهوریة مستقلة رداً على التواجد الاستعماري الفرنسي.

وحتى یومنا هذا یمكن ملاحظة ذاك الحس الاستقلالي القوي في بنقردان، والذي كان للاقتصاد غیر النظامي دوراً في تكریسه كونه وسیلة لتعزیز استقلالیة المنطقة عن الحكومة المركزیة.

أثار إغلاق معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا احتجاج ساكنة بنقردان في يناير 2013. وقد لعبت منطقة بنقردان دوراً محورياً في الانتفاضات التي أطاحت بالرئيس بن علي سنة 2011. «رويترز»

وإضافة إلى عزلتها عن المدن الساحلیة التونسیة، تتمیز بنقردان أیضا ببعدها الثقافي عن باقي البلاد. فنادراً ما یبزغ العلم التونسي في المدینة، كما أن أهالیها لا یُبدون ارتباطا كبیراً بهویتهم الوطنیة. وفي ظل ضآلة فرص العمل، یغیب حافز مواصلة الدراسة عند الشباب حیث یترك كثیر منهم المدارس لیلتحقوا بتجارة التهریب. وهؤلاء الشباب المهمشون الذین یعولون على التجارة غیر النظامیة لكسب عیشهم ساهموا في تشكیل الحركات التي شاركت في ثورات 2010 و2011.

اهمال متوارث

لعبت الأراضي الحدودیة دوراً مهماً في السیاسة التونسیة منذ سنة 2011 ، حیث انتهجت الحكومات المتوالیة مقاربة أمنیة تجاه الأراضي الحدودیة بسبب مخاوف من تورط المهربین في الشبكات الإجرامیة ومن احتمال خروج جیل جدید من المقاتلین من المناطق الحدودیة الفقیرة.

وقد حاول حزب "حركة النهضة" الإسلامي، خلال الفترة التي تسلم فیها السلطة بین سنتي 2011 وأوائل 2014، ضم المتدینین المحافظین والشخصیات السلفیة إلى صفوفه، حیث ادعى الحزب أن القمع العلماني قد دفع الساكنة المحافظة في تونس إلى تأكید هویتها الدینیة عبر وسائل متطرفة . إلا أن هذه الخطوة أضحت موضع جدل كبیر بعد اغتیال السیاسیین العلمانیین محمد براهمي وشكري بلعید. وتعرض قرار حركة النهضة لهجوم أكبر بعد تزاید عدد الهجمات المسلحة في المناطق المحیطة بجبل شعانبي الذي یُعتبر أعلى مرتفع في تونس والواقع وسط حدیقة وطنیة، والذي أصبح معقلاً للجهادیین. ولمواجهة تفاقم العنف الجهادي، قامت السلطات التونسیة بتعزیز إجراءاتها الأمنیة، ما أدى في نهایة المطاف إلى استمرار عزل الأراضي الحدودیة.

أما بالنسبة لمسألة تزاید الهجمات الجهادیة في البلاد فقد ألقى الكثیر من التونسیین باللوم على حركة النهضة وتساهلها الأمني على الحدود وتخاذلها في التعامل مع النزعات السیاسیة الرادیكالیة. هذا وقد صوت التونسیون في الانتخابات التي أُجریت سنة 2014 ل حزب "نداء تونس" العلماني التوجه، حیث ساهمت المقاربة الصارمة التي تبناها هذا الحزب في مواجهة الإسلام السیاسي في وصوله للسلطة، رغم أنه ضم عدداً كبیراً من مسؤولي النظام السابق.

مع ذلك، لا زالت حركة النهضة تحظى بشعبیة في الأراضي الحدودیة، خاصة وأن أهالي هذه المناطق یعتبرون حزب "نداء تونس" وزعیمه الباجي قائد السبسي، وهو وزیر خارجیة سابق في نظام بن علي، بمثابة نسخة جدیدة متخفیة من النظام القدیم.

في عهد القذافي كان تعليم اللغة الأمازيغية مخالفاً للقانون، ولكن بحلول يوليو 2011 عادت هذه اللغة إلى المدارس في ظل صحوة إثنية أمازيغية برزت إبَّان الثورة ضد حكم القذافي. أنيس ميلي/«رويترز»

لقد أشعل انتخاب السبسي لمنصب الرئاسة في دیسمبر 2014 فتیل الاحتجاجات في المناطق الحدودیة التي دعمت بشكل كبیر الرئیس المنتهیة ولایته منصف المرزوقي، حیث اعتُبر المرزوقي رمزاً للقطیعة مع الماضي. وقد جسد المرشحان الرئیسیان الانقسام المناطقي الواقع في تونس، حیث احتشد مناصرو المرزوقي في الجنوب بینما تركز داعمو السبسي ضمن النخبة في المناطق الساحلیة.

وتستمر الیوم مظاهر اللامساواة الجهویة التي خلفها نظام بن علي، كما أذكت التصدعات الناشئة عن التنمیة الاقتصادیة غیر المتكافئة في ظل الأنظمة السابقة نیران الانقسامات السیاسیة، وهي تُشكل الیوم واحداً من أكبر التحدیات التي تواجهها عملیة التحول السیاسي في تونس.

صلات وطیدة عابرة للحدود

لم تكن السلطات التونسیة الجدیدة هي الوحیدة التي ورثت إهمال النظام السابق لمجتمعات المناطق الحدودیة، فحتى في لیبیا وجد قادة ما بعد الثورة أنفسهم أمام مهمة مستعصیة متمثلة في ضرورة حل الصراعات القبلیة المعقدة التي نشأت خلال فترة حكم معمر القذافي.

وقد غض القذافي الطرف عن التجارة غیر النظامیة في الأسواق السوداء التي كان یدعوها ب"أسواق الشعب"، بل وعمل على تشجیعها حیث سمح للأهالي بسد حاجیاتهم الاقتصادیة بهذا الشكل دون تحمیل الحكومة المركزیة لأعبائهم، في حین استغل المسؤولون الفاسدون هذا الوضع لمنفعتهم الخاصة.

وقد تمكن القذافي من خلال رعایته للتجارة غیر النظامیة وتفضیله لمجموعات معینة على حساب أخرى من التحكم في مجریات الأحداث الاجتماعیة والاقتصادیة في المناطق الحدودیة. وما نتج عن هذا من تنافسیة وعداوة بین العشائر المتجاورة لم یَصُب إلا في صالح القذافي مُمَكناً إیاه من السیطرة على التحركات الحدودیة بل والاستفادة من الأعمال التجاریة المصاحبة لها.

ویتمثل نموذج الحكم المفكوك هذا في منطقة فزان التي تضم معظم أراضي الجنوب الغربي اللیبي، وهي منطقة یصعب حكمها كونها صحراء في معظمها، كما أنها دائماً كانت مهمشة من طرف الدولة. ولم تحصد المجتمعات الفقیرة في فزان أیة منافع اقتصادیة تذكر من ثروات النفط والغاز التي تزخر بها المنطقة، حیث ظلت فرص العمل هناك منحصرة في الزراعة وعملیات التهریب واسعة النطاق.

تمكن القذافي من الحفاظ على النظام في المنطقة عن طریق شبكة من المجموعات المدعومة من الدولة التي سرعان ما انهارت بعد سقوط نظامه، ما أفضى إلى بروز الفوارق الإجتماعیة-الإقتصادیة.

وقد تمكن القذافي من الحفاظ على النظام في المنطقة عن طریق شبكة من المجموعات المدعومة من الدولة والتي سرعان ما انهارت بعد سقوط نظامه، ما أفضى إلى بروز الفوارق الإجتماعیة-الإقتصادیة خاصة بعد أن تحولت فزان إلى إحدى جبهات القتال الرئیسیة أثناء الحرب الأهلیة اللیبیة.

إن السیطرة على المناطق الحدودیة، وخاصة في فزان، تَعِد بفرص اقتصادیة مربحة، فقد استغلت عشائر مثل الزنتان – الذین لعبوا في الماضي دور الوسیط ضمن شبكة تهریب مترامیة الأطراف – الفراغ السیادي الذي نشأ بعد سقوط نظام القذافي لفرض سیطرتها على أجزاء من المناطق الحدودیة بین لیبیا وتونس.

أما في معبر راس جدیر الواقع بین لیبیا وتونس، فقد قامت عشائر أمازیغیة من مدینة زوارة – والتي تعرضت لقمع القذافي في السابق – بمحاربة عشیرة الزنتان العربیة بغرض السیطرة على الحدود. هذا وقد أدى قمع القذافي للهویة الأمازیغیة وتجلیاتها الثقافیة، بما في ذلك قمع تداول اللغة الأمازیغیة، إلى نتائج عكسیة تعززت معها حركة المقاومة الأمازیغیة وقادت الأمازیغ إلى استعادة السیطرة على الأراضي التي عاشوا فیها منذ أزمنة غابرة.

یذكر أن قرار العشائر الأمازیغیة الانضمام إلى القوات المناهضة للقذافي قد مكن هذه المجتمعات التي كانت منعزلة فیما مضى من إعادة ربط الأواصر مع عشائر أمازیغیة أخرى في تونس، مشجعة بذلك التعاضد الأمازیغي عبر الحدود. كما برزت صحوة عِرقیة أمازیغیة لیبیة مدفوعة بقوة السلاح وبفكرة التعایش عبر الوطني المشترك مع أمازیغ تونس. وقد ظهر هذا جلیاً في 2011 عندما اختار ما یُقدر بملیون شخص الاحتماء في تونس وما كان بأمازیغ تونس إلا أن استضافوا أشقاءهم الفارین عبر الحدود.

هكذا تحملت المجتمعات المهمشة في الأراضي الحدودیة - هي التي كانت تعیش أوضاعاً مزریة بطبیعة الحال – وطأة القوات المختلفة التي انطلقت منذ 2011، علماً بأن أسلوب حیاة أهالي الأراضي الحدودیة في تونس ولیبیا بالخصوص یظل عرضة للخطر مع تزاید نشاط المهربین المسلحین والمیلیشیات والجهادیین الذین یمثلون تهدیداً لمصادر رزق الأهالي.

لقد سیطرت الأنظمة السیاسیة في كل من تونس ولیبیا على الظروف الإجتماعیة-الإقتصادیة وتركت بصمتها العمیقة علیها، الأمر الذي نجم عنه الواقع الذي یعیشه هذان البلدان الیوم، فبدل أن یُشكل الاقتصاد غیر النظامي الذي ترعرع في "أسواق الشعب" مجرد هامش في الروایة التي تدور أحداثها في الأراضي الحدودیة، أضحى هذا الاقتصاد یشكل قلب القصة وروحها.