الفصل السادس

الدول والمساحات السائبة

في ینایر 2013 اجتمع رؤساء وزراء الجزائر ولیبیا وتونس في مدینة غدامس اللیبیة، تلك المَعلمة المعروفة ب"لؤلؤة الصحراء" والحاضنة لمدینة قدیمة صنفتها منظمة الیونسكو ضمن قائمة التراث العالمي. وقد كان اختیار غدامس لعقد قمة تناقش قضیة اتساع رقعة النزاعات الإقلیمیة اختیاراً ذا دلالة رمزیة كون المدینة تقع في الملتقى الحدودي بین البلدان الثلاثة المذكورة.

إن تآكل هیاكل الدولة وانتشار الشبكات الإجرامیة وتواجد الجماعات المسلحة في المناطق الحدودیة قد دفع المراقِبین إلى اعتبارها "مساحات سائبة". و كثیراً ما تعمد الدول إلى تكثیف التواجد الأمني في هذه الفضاءات كونها تنظر لمجتمعاتها ونشاطاتها الاقتصادیة بعین الریبة. بید أن شساعة هذه الأطراف في المنطقة المغاربیة والساحل – حیث تمتد الحدود البریة الجزائریة لوحدها على مسافة تصل إلى 6 آلاف و 734 كم – تُصعب عملیة تعزیز الأمن فیها وتساهم في هشاشة الحكامة في المناطق التي أَطلق علیها ابن خلدون مسمى "الأطراف".

لكن واقع الحكامة في هذه الأماكن وما جاورها أكثر تعقیداً مما یبدو علیه الأمر. فبعیداً عن العاصمة على سبیل المثال، یعجز المسؤولون المحلیون عن مقاومة إغراءات التهریب والأرباح المتأتیة منه، الشيء الذي یساهم في تفشي الفساد وتآكل سلطة الدولة.

كما تعاني إدارة المناطق الطرفیة من ظاهرة "زوال الحدود"، وهو ما یقصد به الحالة التي "تزید فیها سهولة اختراق الحدود وتتقلص معها قدرات الدول [...] على إغلاق حدودها على نفسها".

فالدول تحاول إدارة الأوضاع السیاسیة والاقتصادیة والسوسیولوجیة عبر تدعیم حدود أراضیها، ویتم ذلك من خلال تعزیز مراقبة الحدود أو إقامة الأسیجة أو من خلال اعتماد تدابیر أخرى تمنع التدفقات عبر الحدود. وتجسد حالات تدعیم وزوال الحدود التي وقعت منذ 2011 أسالیب الحكومات في مواجهة القوى الفاعلة في المناطق الحدودیة ومن حولها.

أما المجتمعات الحدودیة فتعارض بشدة تدابیر الحكومات لاستعادة سیطرتها على هذه المناطق. فاعتزام تونس على سبیل المثال فرض ضریبة على الأجانب غیر المقیمین عند دخولهم البلاد اعتُبر هجوماً على الاقتصاد غیر النظامي، وقد اضطرت الحكومة أمام هذه المعارضة الشرسة إلى التخلي عن الضریبة المقترحة. في غضون ذلك، نجم عن الإغلاق المتكرر لمعبر راس جدیر على الحدود مع لیبیا في السنوات القلیلة الماضیة والاحتجاجات التي خلفها هذا الأمر دوامة من الصراعات المدنیة وانعدام الاستقرار في هذه المنطقة. ولیست الحكومة التونسیة هي الوحیدة التي اعتزمت اتخاذ إجراءات ملموسة رداً على الضغوط التي تعرضت لها في مناطقها الطرفیة، حیث إنها حاولت تدعیم حدودها عن طریق فرض الضرائب وإغلاق منافذ معینة، وهو أمر لیس فریداً من نوعه.

فلطالما كان تدعیم الحدود في المنطقة المغاربیة والساحل رد الفعل الطبیعي على الاحتجاجات عبر الحدود، كما أنه یعتبر مسألة تتعدى المصالح التي طُرحت في لقاء غدامس. فأفواج المهاجرین واللاجئین المتزایدة نحو أوروبا أثارت مخاوف إقلیمیة ودولیة بخصوص سعي الحركات الجهادیة إلى السیطرة على الممرات التجاریة في الصحراء ومنطقة الساحل والتي تُستغل كمسارات للتهریب. وتخشى الحكومات حدوث سیناریو تتمكن فیه الجماعات الجهادیة من التنقل من مخبأ إلى آخر، مستغلة وعورة الأراضي وضعف الدولة.

لهذا قام الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة والولایات المتحدة الأمریكیة إضافة إلى فرنسا بتقدیم الدعم التقني لتونس ولیبیا فیما یخص إصلاحات القطاع الأمني، علاوة على إمدادهما بمساعدات عسكریة ومالیة.

وبما أن الجزائر تتعفف عن الحصول على نفس القدر من المساعدات الأجنبیة فإنها تُخصص موارد بشریة وتكنولوجیة مهمة لمراقبة حدودها البریة الواسعة، والتي یقع 80 بالمائة منها في الأراضي الصحراویة جنوباً.

وقد تأخرت الجزائر في إدراك الخطر الذي یمثله الجهاد والذي تحول من مشكلة داخلیة لیصبح تهدیداً إقلیمیاً، بعد أن استغلت الجماعات المسلحة حالة الاضطراب السیاسي والمراقبة الحدودیة الضعیفة في الدول المجاورة.

وكانت الجزائر قد افترضت أن سلامة وأمن حدودها مسألة مفروغ منها عندما انتهجت سیاسة الاحتواء تجاه فرع تنظیم القاعدة في شمال البلاد (التابع للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، إلا أن الأزمات التي عرفتها كل من مالي ولیبیا وفرت للجماعات الجهادیة ملاذات ومواقع للتربص مكنتهم من إعادة تسلیح أنفسهم وإبرام تحالفات محلیة. ودفع الهجوم المثیر الذي خطط له بلمختار والذي استهدف منشأة الغاز بإن أمیناس الحكومة الجزائریة لإعادة النظر في سیاستها الأمنیة، وبالتالي اعتماد استراتیجیة دبلوماسیة تهدف إلى ضمان تعاون الدول المجاورة في مواجهة هذه المشكلة الإقلیمیة.

كما كثفت الجزائر تعاونها الأمني مع تونس على الحدود تخوفاً من عدم قدرة جارتها على التصدي لجبهتین اثنتین في نفس الوقت، الأولى محلیة صرفة وتتجلى في حالة عدم الاستقرار الداخلي التي تشهدها البلاد، أما الثانیة فإقلیمیة وتتجلى في تسرب تداعیات الأزمة اللیبیة إلى تونس.

وقد ألقت تجربة الجزائر المریرة في الماضي مع الجماعات المسلحة الداخلیة بظلالها على موقف البلاد من المیلیشیات التي تُسیطر على الأراضي والمعابر الواقعة على الجانب اللیبي من الحدود. وقد قررت الجزائر الحد من التنقلات عبر الحدود، وكان قرارها نابعاً من قلقها بشأن الصلات المحتملة بین الجهادیین والطوارق المسلحین في كل من لیبیا ومالي، وكذا ضعف الشركاء الأمنیین عبر الحدود.

إلا أن الحد من الحركة عبر الحدود قد أثر سلباً على التجارة النظامیة للجزائر مع جیرانها، مع العلم أنه رغم كل العراقیل فإن المهربین استمروا في بذل ما في وسعهم من مجهود لمراوغة خفر الحدود نظراً للربح الذي یحققونه من التجارة غیر النظامیة للمواد المدعومة حكومیاً.

علاوة على ذلك، فإن ارتباط الجریمة المنظمة بالمصالح الاقتصادیة للجماعات المسلحة وتقاطعها مع الفساد المستشري في صفوف مسؤولي الدولة قد حوَّل الحدود إلى سوق یجب السیطرة على موارده واستغلالها.

وقد أدت الاضطرابات الأخیرة في كل من تونس ولیبیا إلى تكثیف التحركات عبر الحدود، مع بروز أطراف جدیدة على الساحة تقوم بزعزعة الوضع القائم. وهكذا أصبحت الحدود الیوم أكثر من أي وقت مضى تُشكل مصدر تهدید عوض أن تكون مبعث أمان.

وأصبحت الحكومات بعد الثورات أكثر وعیاً بالاقتصادات عبر-الوطنیة التي أنتجتها الحدود المعاصرة، فمثلاً أعلنت تونس مؤخراً عن إنشاء مناطق تجاریة حرة في المناطق الحدودیة مع كل من لیبیا والجزائر. ولا یُعتبَر إدماج المناطق الحدودیة في الاقتصادات الوطنیة مسألة استقرار مناطقي فحسب، بل إنه یلعب دوراً في دعم الانتقال الدیمقراطي. وقد تأكد هذا الأمر في یونیو 2015 ، حین طالبت مجموعة من المنظمات غیر الحكومیة – نیابة عن ولایة القصرین – بتعویضات من الحكومة التونسیة عن "التهمیش المنهجي" الذي طال هذه الولایة، وذلك كجزء من إجراءات العدالة الانتقالیة في تونس.

نظراً لسهولة اختراقها، تشكل المناطق الحدودية أرضية تدريب ممتازة سواء بالنسبة للميليشيات عبر-الإقليمية، أمثال جبهة تحرير آيير وأزاواك، في الصورة، أو بالنسبة للجهاديين. جون-لوك مانواد/«جيتي»

إن مطالبة من هذا النوع تؤكد نقطة أساسیة : فلطالما لم یتم التعامل مع الأسباب المؤدیة للصراع ومع الأوضاع الاقتصادیة الصعبة، ستظل الحدود خاضعة بشكل كبیر للمعادلة الأمنیة، ما سیُشكل عائقاً في وجه الاندماج الذي یصبو إلیه اتحاد المغرب العربي.

تُعتبر نسبة التبادلات التجاریة الرسمیة بین دول المنطقة المغاربیة من بین النسب الدنیا في العالم، إذ لا تتجاوز نسبته 1.3 بالمائة من إجمالي المبادلات الخارجیة لبلدان هذه المنطقة. لكن هذا لا یعني أن التجارة بأسالیب أخرى هي أیضاً ضئیلة نظراً لرواج تجارة التهریب والتجارة غیر النظامیة عموماً بین مجتمعات المناطق الحدودیة.

فهم الإقلیم من خلال المناطق الحدودیة فیه

إلى جانب المشاكل الاقتصادیة التي تعاني منها الأراضي الحدودیة، فهي تكون عادة في قلب النزاعات والصراعات السیاسیة. وقد ساعدت العولمة على جعل زوال الحدود من جهة، وتدعیم الحدود من جهة أخرى، ظاهرة عالمیة – وهي نزعة شائعة في العالم العربي على وجه الخصوص.

تقف أسوار مدینة غدامس القدیمة شاهداً على ماضٍ ساد فیه ترسیم الحدود، إذ كانت المواقع الهامة في هذه المنطقة كالأسواق والواحات محاطة بالأسوار الواقیة والحصون. أما العصر الحدیث فقد جاء بتحدٍ أكبر بكثیر یتمثل في واجب الحكومات بمراقبة آلاف الكیلومترات من الحدود والسیطرة علیها لضمان حمایة ترابها الوطني.

وبفعل نشاط الجماعات المسلحة عبر الحدود وتدفق أفواج اللاجئین وتكاثر الصراعات المدنیة والتدخلات الأجنبیة على مدى السنوات الخمس الماضیة، دخل موضوع المناطق الحدودیة إلى قلب الجدل السیاسي. فهذه المناطق تجتذب كلاً من الجماعات المسلحة والمهربین لأنهم یجدون فیها المخابئ والمسالك اللازمة لتنفیذ أعمالهم.

وإلى جانب هذه العوامل، فقد كانت المنطقة المغاربیة تاریخیاً هي المحطة الجغرافیة التي یلتقي فیها العالم العربي وإفریقیا وأوروبا، مما جعل هذه المنطقة محل نزاع على مر العصور كما یتضح من تاریخها المضطرب الذي رواه لنا ابن خلدون منذ ستة قرون خلت.

لقد تبیَّن ابن خلدون ملامح بلاد المغرب الحدیث خلال ترحاله عبر المنطقة ورَسَمَ خریطة للمساحة الاقتصادیة والسیاسیة المغاربیة وتأثرها بالتجارة والنزاعات . ورغم أن دولاَ حدیثة حلت محل السلالات الحاكمة إبَّان عصره، إلا أن المنطقة لا تزال غارقة في الاضطرابات العابرة للحدود التي تختبر مدى قدرة الدول على الحفاظ على سیادتها وعلى حس الانتماء الوطني لدى الأفراد والمجتمعات فیها وعلى نسیجها السیاسي.

لقد أصبحت المناطق الحدودیة كما لو أنها ذاتٌ راویة، تحكي وتؤرخ العلاقة الدائمة التقلب والتطور التي تجمع بین دول المنطقة وشعوبها. وبما أنها غالباً ما تكون الأكثر تعرضاً لویلات الاضطرابات الإقلیمیة، فإن هذه المناطق تحمل ندوباً غائرة لن یساعد على اندمالها الشرخ المتفاقم بین الحكومات والأهالي القاطنین على الحدود المغاربیة.

إن المناطق الحدودیة تُسلط الضوء على هذه المشاكل التي غالباً ما تُعتبر هي نفسُها مصدرَها. أما سكانها فینظرون إلیها من جانبین متناقضین، إذ یعتبرونها بلاءً بسبب إهمال السلطات لها وریبة صناع القرار منها، ومن جهة أخرى فإنهم یجدون فیها ملجأ لتمكین الذات وبناء المقدرات. ففیها یجد المهمشون سیاسیاً واقتصادیاً ملاذاً یستطیعون التواجد فیه بعیداً عن الدولة المركزیة، رغم ما یطالهم من مضایقات متواصلة. ویرى الأهالي كذلك أن المناطق الحدودیة لیست كما یتخیلها عموم الناس، أي أنها لیست مجرد أماكن تخترقها أسیجة وحواجز تفصل بین البلدان، بل هي جسور تتخطى حدود الدول وتبعث فیها شعوراً بالترابط والقربى.

وقد أدت النظرة السائدة حول كون الأراضي الحدودیة مجرد "مساحات سائبة" إلى تداعیات ذات أثر حقیقي على مثل هذه المناطق في مختلف أرجاء بلاد المغرب، حیث إنها قد أثارت استجابات أمنیة تراوحت بین التدخل المسلح وبناء الأسیجة الحدودیة. ولكن، وخلافاً لهذه النظرة الضیقة، فإن الأراضي الحدودیة في واقع الأمر تمثل مسافات یندمج فیها ما هو وطني وما هو عبر-الوطني، و البنیات الاجتماعیة الكائنة في الأراضي الحدودیة لا یكون اختزالها في خطوط مُصطنعة تلعب دور الحدود.

وبما أنها انعكاس للسیاق التاریخي الذي أفضى إلى نشأتها في الأصل، فإن الأراضي الحدودیة بمثابة منظار یُمْكِنُنا أن نُبصر من خلاله لنستوعب ما تُقاسیه المنطقة من محن، وأن نُقدر بواسطته مدى عافیة الأنظمة السیاسیة والاقتصادیة الموجودة في المنطقة.